الثورة الليبية، ..والمسار الآخر...
تعبُر الثورة الليبية لحظات حاسمة في مسارها الممتد في شهره الثاني...طارحة في المشهد العربي الكثير من الأسئلة حول إمكانية نجاح أوفشل الثورات العربية القادمة، فثورة ليبيا كانت مخالفة لكل الثورات التي سبقتها حيث إنها لم تتدرج بالشكل الطبيعي الذي يسمح للقائمين أو الموجهين للثورة عن بعد أن يتحكموا في محطاتها التي لم تكن اعتيادية، والسبب في أن الثورة الليبية كانت بدعا من الثورات لا يكمن في الشعب الليبي، بل ضرب الشعب الليبي أبهى أنواع الصبر والصمود أمام طاغية جعل شعاره لأول وهلة "أنا أو الطوفان" شعار لم يمنح الحرية للشعب الليبي في أن تسير ثورته سلمية على غرار ماوقع في مصر وتونس.
"المعقَّد الليبي" كما أنه غريب في شكله وزيه وكلامه وتحليله وجلوسه وحراسه وأتباعه....، كان غريبا كذلك في تعامله مع شعبه حيث أكد للعالم غباوته وأنه "المُعَمَّرُ" في القمع والقتل والتنكيل ومن شبَّ على شيء شاب عليه.
من بن غازي إلى زناته إلى مسراته إلى طرابلس لم يتدرج "المعقَّد" في قمعه للثوار، حيث أن تعامله مع شعبه أعيى كل المحللين السياسيين، وأصبح ــ كما كان ــ بحاجة لمحلل نفسي أكثر من حاجته لمحلل سياسي.
جرم القذافي وتقتيله لشعبه أعانه عليه قوم آخرون" يعيشون في منكب برزخي" كانوا أكثر حرصا على القائد المعقّد ممن يقودهم أصلا ولم يكونوا يرضون عن قيادته، وهو غير المؤهل أصلا وبلا رخصة.
الشيء الغريب في الثورة الليبية هو دخول القوى الأجنبية لحسمها، وطبعا الحسم هنا لا أجزم أنه سيكون لصالح الثوار فمن لا يباشر الفعل لا يتحكم في النتائج، فهل كان العرب على حق حينما استنجدوا بغيرهم ليقضى على "معقَّدهم"، أم هو خوف زائد من أن يسيطر "المعمَّر" على المشهد من جديد ويبدأ في الانتقام وتصفية الحساب مع من أبدوا تأييدهم للثورة لأول وهلة؟
أعتقد أن التدخل الأجنبي في ليبيا ــ وإن تم طلبه بإلحاح من الثوارــ سيجعل القذافي في موقع دفاع عن حوزته الترابية ويمنحه شرف المقاومة، لا قدر الله. ربما يكون بغضنا للقذافي والقذافيين، وإجرامهم الزائد أعمانا وأفقد الجميع صوابه حتى تمنوا زواله بأي ثمن.
لكن ــ والحق يقال ــ "ولا يجمرنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى".
ألا يعلم العالم العربي والإسلامي أنه يمنح القذافي وأزلامه فرصة ليظهر أنه بطل مقاوم للغرب شاؤوا أم أبوا، قتل القذافي شعبه، رمَّل نساءه، ويتَّم أطفاله، دمَّر بلده، أحرق اليابس و"الأخضر" بعد أن كان شعارَه، فهل كان الحل سليما للتخلص منه؟
ثم لنفترض كما هو الواقع أن ليبيا الآن أصحبت تشهد فتنة وتقاتلا بين طائفتين من المسلمين ألا يقول جل وعلا: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله)
فيئة القذافي ورجوعه إلى الحق أمر صعب وثمنه غال ولا بد فيه من كثير تحمل، ولكن الأمرُ أدهى وأمرُّ حينما نستعين على حاكم عربي بدول أجنبية لا ترقب فينا إلا ولاذمة، ولاتقيم وزنا لنا، من باب أحرى أن تضحي بعدتها وعتادها من أجل حريتنا..؟ !
لا يساور أحدا أدنى شك في أن الغرب لم تحركه أنهار الدماء التي سالت في ليبيا، بل تحرك حبا وطمعا في ثروات بلد يصنف من البلدان النفطية، تراجعت أمريكا عن القيادة ولو علنيا، وسلمتها لفرنسا في تبادل واضح للأدوار حفاظا على مطامعهم، وواهم ألف واهم من يظن أن تحركهم دفاع عن الثوار الليبيين، فهل الدم الليبي أغلى من الدم المصري والتونسي حينما اكتفت القوى الغربية إزاءهما بمواقف تعبر عن نفاقها، فأمسكت العصى من الوسط.
فقد البعض توازنه؛ لينتقل من مؤيد لتحرير الشعوب وتأييدها في العيش بكرامة، والتنفس من عبير حرية افتقدته طوال عشرات السنين، إلى مستنجد بالأعداء الحقيقين ليتخلص من معتوه لا يعقل ولا يسمع إلا صوت الحرب.
أجدني مضطرا لإنكار واستنكار التدخل الأجنبي بأي ذريعة ولأي هدف كان، فالغاية لا تبرر الوسيلة من وجهة نظرنا كمسلمين نسعى إلى القيم أكثر من سعينا إلى التعامل مع الواقع كما هو حتى لا نكون "واقعيين".
أعتقد أن الموقف العربي في مجمله لم يكن في المستوى، والأيام المقبلة ستبرهن على خطإ الخيار الذي اختاروه، أو على الأصح الاضطرار الذي أوقعهم فيه"المعقّد"، موقف سيؤثر بلاشك على الشعوب التواقة للحرية، ويجعلها أمام خيار صعب إما طاغية أهلك الحرث والنسل، أو تدخل غربي سيحافظ على مصالحه ويسعى إلى استرداد ما أنفقه في الحرب أكثر من سعيه لحرية الشعوب.
دخول الأجنبي في ليبيا يمنح القذافي وأتباعه فرصة التمظهر بمقاومة الغرب، وهم على العكس من ذلك، لم يشتهروا إلا بمقاومة الحريات وكبتها والاعتداء على الخيرين في كل بلد بكل ما أوتوا من قوة، وليست وشاية أذناب القذافي في موريتانيا بالصحفي المتميز أحمد فال ولد الدين إلا تعبيرا عن تاريخهم السيئ الضارب في العداء لكل من وقف مدافعا عن الحق، لكن رغم أنوفهم سيذهب القذافي بتضحيات الشعب الليبي وصموده وكل الأحرار من هذه الأمة.
نرجوا الله سبحانه وتعالى أن يفك أسر أحمد فال ولد الدين وأن يرده لأهله معافى في بدنه وعقله وأن يُشغل كل من أراد إسكات الحق بنفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق